لا نفاق ولا أتملق أحد كتب هذه الحروف ودموعي تلاعب الرمش حنيناً وحباً بأهلي)


سنذهب ونتناول الغداء وسط البُستان. 

-حسناً يا جَدي إذهب سآتي بالزاد وألحق بك.

يخطو الجِد الكَهِل بخطى مُرتجفة قصيرة بين الشجيرات وقد تشابكت يداه خلف ظهره، ينظر إلى جذوع الأشجار بعدما اشتدت وكانت بالأمس بضع ألياف تتشبث بالأرض بجذور ضعيفة رفعية طمعاً في الحياة، ينظر إلى سيقانها وكيف أنها إغلضت وخَشُنت وكانت في الأمسِ سيقانٌ طرية تداعبها النسائم، يحملق بعينه المكسورة من أشعة الشمس إلى الثمار بعين فيلسوف حياة يتخيلها بعد نُضجها، يشيح بحدقته نحو أعالي الأشجار، يُدرك أنها لن تعلوا فقد بلغت من الكبر عتياً وهي مغرورة تترنح وتزهو بثمارها ولونها الفاقع ولا تعلم أن مثلها كثير فارقت الحياة وهي واقفة، يكلم نفسه أن كثيراً من البشر مثلها تزهو له الحياة وتغره.

يتأمل في قيم البشر وأنها كقيم الأشجار بثمارهم بقدرتهم على العطاء كالأشجار تعطي لأنها بحاجة لأن تعطي، خلقت لتعطي فما فائدتها لو حَملت وتمنعت؟ كيف سيستطيع الناس تقييم ثمارها ولذة حملها؟ كيف ستفيدهم ؟

ثم يعيد النظر قريب، إلى خطاه يبحث عن مكان آمن ليضع خطاه ويطمأن ويسافر بذاكرته نحو الوراء، كم ذكرى زُرِعت مع كل شجرة، وكم جلس مع أعزاء تحت ظلال الأخرى وكم له من أحاديث تشربتها جذوع الأشجار مع من يحب ؟

يخطو نحو شجرة التين الكبيرة 

ليجلس تحتها وليستظل بظلها الكثيف 

ويتكأ على جذعها الواسع ويشيح ببصره وينظر إلى بقية الأشجار ويستذكر الذكريات، إن هذه الشجرة زرعها مع أخية الأكبر الذي وافته المنية، وتلك الشجرة الاخرى زرعها بإحتفال مع زوجته بمرور خمسة أعوام من زواجهم وهي الأن تحت الثرى، يستذكر عندما زرع على جانبي شجرة التين الكبيرة شجرتي زيتون حين رُزق بتوأم أولاد، وتلك الأشجار زرعها يوم تفوق أبنائه في الدراسة وهو يبتسم لها ويدفن جذورها في التراب.

-جدي أين أنت ؟

-أنا هنا تحت شجرة التين الكبيرة. 

-جدي أراك لستَ على ما يرام؟

- لا يا بني بل أنا على ما يرام لكن ذكرياتنا ليست على ما يرام.

- ولماذا لا تتكدر إلا عندما تدخل البستان؟

-لأن لنا فيها ذكريات زرعناها مع جذور هذه الأشجار ودفنا مشاعر جميلة معها.

-وما شأن الأشجار بكدرك؟

-لأنها وحيدة وفارقنا وأياها من نحب وبقيت وبقينا وحيدين.

-الآن فهمت يا جدي لماذا لم تزرع منذ أعوام ؟

- يا ولدي لقد ذاب اللحم ودق العظم ورجفت همتنا وامتلأ الرأس شيب، وغادرنا جَلَدُنا ولم أعدْ استطيع أن أزرع الكثير من الذكريات.

- جَدي بماذا تنصحني أن أكتفي بقليل من التجارب وذكرياتها أم أغدق حياتي منها؟؟؟؟؟؟؟ 

الجواب لكم 

فقد فارق جَده الحياة!



تم عمل هذا الموقع بواسطة