السَّتْرُ عَلَى قِسْمينِ: سَتْرٍ عن المعْصِيَةِ، وسَتْرٌ فيها؛ فالعامَّةُ يَطلُبُونَ مِنَ الله تعالى السَّتْرَ فيها خشيةَ سُقُوطِ مرتبتهِم عِندَ الخلقِ، والخاصةُ يطلبون السترَ عنها خشيةَ سُقُوطِهِم مِن نَظَرِ المَلِكِ الحَقَّ.ابن عطاء الله السكندري رحمه الله تعالى أجرى في هذه الحكمة الجليلة مقارنة بين الأثر الذي تخلفه الطاعة أحياناً وبين الأثر الذي تخلفه المعصية أحياناً أخرى، وهنا جعل المعصية التي تورث للعبد التذلل والانكسار والمجيء إلى باب الله بذلة، خير من تلك الطاعة التي تؤدي إلى عكس ذلك الأمر من التعزز والغرور بفعل تلكم الطاعة التي يأتيها العبد. وقد يتوهم كثير من الناس أن ابن عطاء الله السكندري قد خالف الشريعة بقوله هذا، لكن بعد بسط الكلام ومقصودة سيتبين خلاف ما تبادر للذهن عند الوهلة الأولى.
هذه الحكمة التي أتى بها ابن عطاء الله في الحقيقة حاضرة في القصة التي يقصها علينا القرآن الكريم في أكثرَ من سورة وهي قصة سيدنا آدم عليه السلام مع إبليس؛ فإبليس كان من عباد الله الطائعين حتى رفعه الله تعالى من جنس الجن إلى مصاف الملائكة المقربين في الجنة، فلما أمره بالسجود لآدم –وبالنظر إلى تلك الطاعة والعبادة والمجاهدة التي كان يأتيها، وبالنظر كذلك إلى تخالُف أصل خلقة كل منهما “النار والطين”- رأى بأن طاعته وما خُلق منه تجعله أفضل من آدم عليه السلام وهو الذي خُلق تَوّاً ؟ فكيف يسجد الفاضل للمفضول؟ فقال عندها: أنا خير منه.
فهذه الطاعة التي أتاها إبليس حملته على التعزز والتمنع والغرور ورؤيةِ أنه أفضلُ من آدم، والاعتراضِ عندها على أمر الله تعالى، لكنِ الأمرُ كل الأمرِ في الامتثال والطاعة.
لأن الله تعالى عندما أمره بالسجود لآدم لم يقل له اسجد لآدم لأنه خير منك، إنما قال: اسجد لآدم، فكان ينبغي أن يمتثل الأمر دون أن يبحث عن علة السجود. وقد يُطرح هنا سؤال من بعضهم في أن إرادة الله تعالى تتغير وتتبدل إذا اعتبرنا أن إبليس من الملائكة ورغم ذلك لم يستجب لأمر الله تعالى! فإذا أخذنا بهذا الاعتبار فإن أهل السنة الأشاعرة عندهم أن الأمر غير الإرادة فالله تعالى «أمره» بالسجود لكنه لم يرده منه، بخلاف المعتزلة الذين يجعلون الأمر عين الإرادة وإذا وقع عندهم التناقض كما جاء هنا يفرون إلى التأويلات البعيدة المتكلفة.
والاعتبار الثاني أن الأمر كان موجها للملائكة، قال تعالى: “وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم” [سورة طه، الآية: 116]، وأن إبليس لم يكن منهم قال تعالى: “إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه” [سورة الكهف، الآية: 50].
وأهل العلم قالوا: إنما كان السجود لآدم للنفخة التي نفخها الله تعالى فيه، “فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين” [سورة الحجر، الآية: 29]. إذا فامتثال الأمر هنا واجب.ويمكن أن نستشف -تعقلا فقط- أن إبليس قد لبَّست عليه نفسه بأن السجود لآدم مخالف للتوحيد!، وقد تأتي هذه الوسوسة لبعض الناس من هذا الأمر. وهي مسألة السجود لغير الله تعالى بين العبادة والخدمة.
معصية أورثت ذلا وانكسارا؛ سيدنا آدم عليه السلام فعل المعصية، قال تعالى في سورة طه: “وعصى آدمُ ربَّه فغوى“ [سورة طه، الآية: 121]، فكانت هذه المعصية التي ارتكبها آدم عليه السلام لما دعته إلى الانكسار في باب الله تعالى مغفرة ورِفعة. قال: “ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى” [سورة طه، الآية: 122].
إن ابن عطاء الله السكندري يريد أن يقول لنا هنا والله أعلم، أن على المؤمن ألا يقف لا مع الطاعة ولا مع المعصية، لأن الله تعالى ما عجر أن يخلق الناس مثل الملائكة المجبولين على الطاعة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، لكنه وهو الحكيم العليم سبق في علمه وقوع المؤمنين في المعصية فأرادها منهم لتحملهم تلك المعصية على الذلة والانكسار، فقد جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، وجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله فيغفر لهم)[2]. فأعظم باب للدخول على الله هو باب الذل وهذا الأمر قد تفطن له العارفون فعملوا على تحصيله وتعليمه لمُريديهم.
وخير منها، أي: من المعصية التي تورث الانكسار؛ الطاعة التي تورث الانكسار، فإن العارفين يتبرؤون ويتذللون عند الطاعة أكثر مما يتذلل أهل المعاصي عند المعصية، ويستغفرون الله من تلك الطاعة، لأنهم يرون أنها ليست أهلا لمقام العبودية التي يريدها الحق تعالى من العباد، ولا أدل على ذلك من خَلْق الله تعالى لنوع من الملائكة يسجدون منذ خُلقوا إلى أن تقوم الساعة، فإذا رفعوا من السجود قالوا: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك.[3]لذلك قيل: سيئات الأبرار حسنات المقربين[4].
ولذلك فالعارفون يرون أن الطاعة والمعصية هي حالُ المؤمن، فمرة هو في طاعة ومرة هو في معصية، فمقتضى الحق منه في حال الطاعة شهود المنة، ومقتضى الحق منه في حال المعصية اللجأ والإنابة والاستغفار